ربما إذا ذكر البعض هذا الإسم إستدعى الذهن ما رُسم حوله من صورة ذهنيه مشوهه وملومات مغلوطة ، إلا أن الحقيقة أن هذا الرجل هو قطب من أقطاب التاريخ الإسلامي ، من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبة منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا همَّ له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.
إسمه ونسبه:
أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة ثمان وأربعين ومائة، وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهي أم الهادي .
وُلد فى مدينة الري عام 149 هـ ، بويع بالخلافة ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهي الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي عام 170 هـ وكان عمره آنذاك 22 سنة.
تولي هارون الرشيد الخلافة:
بتولي الرشيد الحكم بدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعمَّ الرخاء ربوع الدولة الإسلامية، ولقد أمسك هارون الرشيد بزمام هذه الدولة وهو في نحو الثانية والعشرين من عمرهِ، فأخذ بيدها إلى ما أبهر الناس من مجدها وقوتها وأزدهار حضارتها.
إسهامات هارون الرشيد:
– إتخذ هارون الرشيد مدينة الرقة عاصمة له بين عامي 799 و 800.
– أنشأ بيت الحكمة في بغداد وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض.
– بنى المساجد الكبيرة والقصور الفخمة وفي عهده استعملت القناديل لأول مرة في إضاءة الطرقات والمساجد.
– اعتنى الرشيد أيضًا بالزراعة ومأسسة نظامها، فبنت حكومته الجسور والقناطر الكبيرة وحفرت الترع والجداول الموصلة بين الأنهار.
– تمت في عهده أول ترجمة إلى العربية لأشهر كتاب علمي عرف في التاريخ وهو “كتاب الأصول (الأركان) في الهندسة والعدد لإقليدس.
– تطورت في عهده العلوم خصوصًا الفيزياء الفلكية والتقنية، وابتكرت عدد من الاختراعات كالساعة المائية.
– أنشيء في عهده أول مصنع للورق ببغداد سنة 795 م وصار سوق الوراقين لاحقا الذي يضم مئات الحوانيت التي تبيع السلع الورقية الفاخرة.
إهتمام الرشيد بالعلم والإدب:
كان الرشيد مثقفا ثقافة عربية واسعة وكان يملك أدبا رفيعا وتذوقا للشعر واللغة لذلك قيل: “كان فهم الرشيد فهم العلماء. وكانت مجالسه تملأ الشعراء والعلماء والفقهاء والأطباء والموسيقيين, وكان كثيرا ما يناقش العلماء والأدباء, كذلك كان ينقد الشعر والشعراء”.
كان يقول: البلاغة التباعد عن الاطالة, والتقرب من معنى البغية, والدلالة بالقليل على المعنى .
قال عنه الذهبي: وكان يحب العلماء, ويعظم حرمات الدين, ويبغض الجدال والكلام, ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما اذا وعظ ، ومن أشهر الأدباء الذين عاصروا الرشيد وحضروا مجالسه الشاعر الكبير أبو العتاهية وأبو سعيد الأصمعي ، ومن علماء الدين الذين عاشوا في عصره الامام الشافعي صاحب المذهب الشافعي والامام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي في الفقه الذي التقى بالرشيد حين قصد الخليفة منزله بالمدينة المنورة وقرأ عليه الامام كتاب الموطأ، وعلى الصعيد العلمي دعم الرشيد عالم الكيمياء المشهور جابر بن حيان وأسس وتلامذته منهج التجربة في العلوم.
وفاة هارون الرشيد:
علم هارون الرشيد بدنو أجله من رؤية قد رأها ، رأى كفًّا به تربة حمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين، فلما سار يريد خراسان مَرّ بـ (طوس) فمرض بها، فقال لخادمه: ائتني بشيء من تربة هذه الأرض. فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها فأمر بحفر قبره في حياته، وأن تُقرأ فيه ختمة للقرآن تامة، وحُمِل حتى نظر إلى قبره فجعل يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم وبكى، ثم قبض بعد ثلاث ليال.
مات الخليفة المسلم الذي بلغ ملكه ما بلغ الليل والنهار حتى قال ذات يوم للسحاب” أمطري حيث شئت؛ فسيأتيني خراجك” ، فعاش المسلمون في عهده في رخاء عظيم حتى بلغ إيراد الدولة الإسلامية 70 مليون و150 ألف دينار ، إذن لابد أن تُصحح الصورة الذهنية عن هذا الرجل العظيم فهو عكس ما قيل عنه تماماً ، فكم في التاريخ من تزوير للحقائق وتشوية للرموز فحري بنا أن نتحرى الدقة جيداً فيما نتلقاه من علم.
