فى ظل الصراع القائم بين دول العالم المختلفة تتجلى بعض المصطلحات الغريبة على الأذهان والأسماع ،من هذه المصطلحات واهمها ( العلمانية ) ويتسأل العوام حول معناها ونشأتها وتاريخها ومراحل تطور المفهوم .
تعريف العلمانية
تعريف العلمانية كما جاء فى دائرة المعارف البريطانية أنها ” حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ” . وفى معجم إكسفورد أنها “الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية ” إذن يأتي تعريف العلمانية فى سياق الفصل التام بين الدين والدولة الممثلة في إدارتها وتفاصيل شؤونها
نشأة العلمانية
نشأت العلمانية إثر الصراع بين الكنيسة ورجال الدين من جهه وبين الجماهير الأوربية من جهة أخرى ، وذلك نتيجة تحول رجال الدين الى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الدين، وقول الراهب جروم: “إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد أنحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال؛ بل كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك، وتذاكر الغفران…” ودخلت الكنيسة -أيضاً- في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك لا على الدين والأخلاق ولكن على السلطة والنفوذ
والأدهى من ذلك وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر، وتشكيلها لمحاكم التفتيش وقتل العلماء مثل: كوبر نيكوس الذي ألف كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمة الكنيسة هذه الكتب، وجردانو الذي صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً حتى توفي وغيرهم كثير .
لقد ساعدت الظُّروف التي عاشتها أوروبا على خَلْق طبقة من الطُّغاة تستَّروا باسم الدِّين، وفرضوا على النَّاس مجموعة من العقائد والأوامر، التي لم ينزل بها وحي، ولم يُقِرَّها عقل، ولا يقبلُها الواقع؛ ففرضوا الضَّرائب الباهظة على النَّاس، وجمعوا الأموال، وملكوا الإقطاعات الكبيرة، وسخَّطوا النَّاس؛ فيسخرونهم للعمل بها بلا أجر، مقابل وُعُود مزعومة سمعوها من رجال الكنيسة، وادَّعى هؤلاء لأنفسهم الحقَّ الإلهي في تنصيب الإمبراطور وعزله عن الحُكم، وكان هذا الزَّعم الخاطئ سببًا في خَلْق نوع من التَّحالف بين رجال الكنيسة من جانب والإمبراطور، الذي يقومون بتنصيبه حاكمًا من جانب آخر؛ فكان الإمبراطور وكيلاً عن الكنيسة في تنفيذ أوامر رجالها، وفرضت الإتاوات، وجمعتها نيابة عنهم من النَّاس؛ وبالتالي كان رجال الكنيسة يباركون كلَّ فعل يقوم به الإمبراطور، وكل أمر يفرضُه على الرَّعيَّة، وكان هذا التحالف سببًا في إيجاد نوع من الكراهية الشديدة لرجال الدِّين والإمبراطور معًا.
ثُم حدث نوع من الصِّراع الدَّفين بين رجال الكنيسة من جانب والإمبراطور من جانب آخر، وأخذ كلٌّ منهما يتربص بالآخر، ويتحيَّن الفرصة للخلاص منه؛ فقد ضاق الإمبراطور ذرعًا بطغيان الكنيسة، ومُحاولة السَّطو على سياسته، والتدخل الكثير في شؤون السياسة والدولة، ومع هذا الشعور بالكراهية، فإنَّه لا يَملك حقَّ الرفض لأوامر الكنيسة؛ لأنَّه – حسب زعمهم – ينفذ أوامر الله، وأنَّ خُضُوعه لسلطانها ليس اختياريًّا ولا تطوعًا منه، ومن هنا كان رجال الكنيسة يُهدِّدون الإمبراطور بالطَّرد والعزلة عن الحكم كثيرًا، ويذْكُر التَّاريخ أنَّ بعض رجال الكنيسة، وهو “جريجوري السابع” قال: “إن الكنيسة جديرة بأنْ تكونَ صاحبة السُّلطة العالمية، ومن حقِّ البابا أنْ يَخلع المُلُوكَ غير الصالحين، وأن ينصب ويؤيد من يراه من البشر صالحًا للحك
وقد مارس “جريجوري” هذا الحقَّ عمليًّا مع إمبراطور ألمانيا “هنري الرابع”، حين اختلف معه في بعض المسائل، فأعلن الإمبراطور خَلْع البابا وعزله عن الكنيسة، وكان الرد على ذلك أنْ أعلن البابا خلع الإمبراطور وعزله عن الحُكم، وزاد عن ذلك أنْ حَرَمه من رحمة الكنيسة، وعيَّن أحد خلفائه في مكانه، وأخذت الفجوة تتسع بين الكنيسة والإمبراطوريَّة تدريجيًّا؛ حتَّى أعلنت الإمبراطوريَّة الفصل التام بين السُّلطتين: بين السُّلطة الدينية والسُّلطة المدنية، وذلك بعد شُيُوع الاتجاه العلماني وتطبيقه
العلمانية والتدين
التَّديُّن من الأمُور التي لا تحتاج إلى دليل لإثبات صحَّتها؛ لأنَّها قضية فِطرية، وغريزة إنسانيَّة، وحاجة نفسيَّة؛ فإنَّ الله – تعالى – قد فطر الإنسان على مَحبة الخير، ومحبة الحق، وتحصيلهما، والسعي إليهما، والاطمئنان لهما، ومن منطق هذه الغريزة الفطريَّة نجد كل إنسان – بل كل كائن حي – يسعى جاهدًا لما يظنُّه خيرًا له، وما يعتقد أنَّه الحق، ويسعى في طلبهما، وقد يُقاتل دونهما، وهذا أمرٌ يُحِسُّه كلٌّ منّا في داخله بحيث لا يحتاج إلى برهنة أو استدلال، فأنت ترى الطِّفل حين يُولد مدفوعًا إلى التقام ثدي أمِّه، دون مُعلم ولا مُرشد؛ كما لو كان مدرَّبًا على ذلك من قبل، وليس هذا في طفل الإنسان فقط، بل نجده في طفل الحيوان أيضًا؛ وذلك استجابة لتلك الغريزة الفطرية التي فطر الله عليها كلَّ كائن حي؛ محبةً للخير، ومحبةً للحق، وتحقيقًا لما يظنُّه الإنسان خيرًا، تجده مُرتبطًا في أوَّل عهده بالحياة بأمِّه التي يتغذَّى منها، ويظُنُّ أنَّها مصدر الخير له، ثُم تجده بعد ذلك يرتبطُ بوالده، ثُم بأستاذه، ثم برئيسه في العمل، وقد يظلُّ ذلك الارتباط طويلاً؛ لغلبة الظَّن أنَّ هؤلاء جميعًا مصدر الخير له، فإذا ما تعرَّف الإنسان على ربِّه، وآمن بأنه الخالق الرازق، والمُعطي والمانع، والضار النافع، وأنَّ كل هذه الوسائط أسباب مُسخرة؛ لتستقيم بها حركة العُمران في الكون، إذا ما تَمَّ له ذلك فإن قلبه يتعلق بالله تعالى باعتباره مصدرًا لكلِّ خير، وصاحب كل نعمة.
وإذا رجعنا إلى تعريف العلمانيَّة سوف نجدُ بينها وبين التَّديُّن تناقضًا، لا مجال لرفعه وإزالته، وهذا التَّناقض قد اصطدمت به الحضارة الأوروبيَّة إبان عصر النَّهضة؛ حيثُ لم تستطع أن تتخلص أبدًا من الإيمان بالمسيحيَّة كعقيدة يؤمن بها الغرب، وتَدينُ بها شُعُوبُه؛ فتركت للنَّاس حُرِّية الاعتقاد بخلاف الدُّول الشُّيوعيَّة التي حاربت التَّدين وناصبته العداء، ولم يدُم ذلك طويلاً، وكان مآلَها الانهيارُ والخراب، وهذا الموقف جعل بعض الباحثين يذهبُ إلى القول بأنَّ العلمانية في أوروبا محايدة، ولم تصطدم بالدين