إنً من نعمه الله على الناس أن جعل لهم أُناس حملوا أمانة العلم وفقه الدين والدنيا، هؤلاء الصفوة إجتهدوا وضحوا بأوقاتهم وأموالهم لإكتساب العلم وتقهه حتى صاروا مشاعل من النور يُضيئون للناس حياتهم المُظلمة، فكان من هؤلاء الكوكبة المتوهجه ” الإمام محمد بن إدريس الشافعي “.
الامام الشافعي احد الائمة الاربعة عند اهل السنة واليه نسبة الشافعية كافة. وهو ابوعبد الله محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي. وكان ابوه قد هاجر من مكة الى غزة بفلسطين بحثا عن الرزق لكنه مات بعد ولادة محمد بمدة قصيرة فنشأ محمد يتيما فقيرا.
وشافع بن السائب هو الذي ينتسب اليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واسر ابوه السائب يوم بدر في جملة من أسر وفدى نفسه ثم اسلم. ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
مولد ونشأة الامام محمد الشافعي:
وُلد الإمام الشافعي بغزة سنة 150 هـ ونشأ الشافعي من أسرة فقيرة كانت تعيش في فلسطين وكانت مقيمة بالأحياء اليمنية منها، وقد مات أبوه وهو صغير، فانتقلت أمُّه به إلى مكة خشية أن يضيع نسبه الشريف، وقد كان عمرُه سنتين عندما انتقلت به أمه إلى مكة، وذلك ليقيمَ بين ذويه، ويتثقفَ بثقافتهم، ويعيشَ بينهم، ويكونَ منهم ، عاش الشافعي في مكة عيشة اليتامى الفقراء، مع أن نسبه كان رفيعاً شريفاً، بل هو أشرف الأنساب عند المسلمين، ولكنه عاش عيشة الفقراء إلى أن استقام عودُه، وقد كان لذلك أثرٌ عظيمٌ في حياته وأخلاقه.
الامام الشافعي وطلب العلم:
حفظ الشافعي القرأن الكريم وهو في السابعة من عمره مما يؤكد على ذكائه وقوة حفظه، ثم إتجه إلى حفظ الحديث الشريف فحفظ موطأ الإمام مالك بن أنس رحمه الله وكاه عمره أنذاك ثلاث عشرة سنة ، وكان رحمه الله يحفظ الحديث بمجرد السمع فكان شديد الذكاء والحفظ.
صاحب الإمام مالك ست عشرة سنة حتى توفى الامام مالك 179 هجرية، وبعد وفاة الامام مالك سافر الشافعي الى نجران واليا عليها ورغم عدالته فقد وشى البعض به الى الخليفة هارون الرشيد فتم إستدعائه الى دار الخلافة سنة (184هجرية ) وهناك دافع عن موقفه بحجة دامغة وظهر للخليفة براءة الشافعي مما نسب اليه واطلق سراحه.
واثناء وجوده في بغداد أتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ ابي حنيفة وقرأ كتبه وتعرف على علم اهل الرأي ثم عاد بعدها الى مكة واقام فيها نحوا من تسع سنوات لينشر مذهبه من خلال حلقات العلم التي يزدحم فيها طلبة العلم في الحرم المكي ومن خلال لقاءه بالعلماء اثناء مواسم الحج. وتتلمذ عليه في هذه الفترة الامام احمد بن حنبل صحاب المذهب الرابع والأخير من المذاهب الفقهية المعتبرة.
الشافعي في مصر:
قدم مصر سنة ( 199 هجرية ) تسبقه شهرته وكان في صحبته تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي، وعبدالله بن الزبير الحميدي، فنزل بالفسطاط ضيفا على عبد الله بن عبد الحكم وكان من اصحاب مالك. ثم بدأ بالقاء دروسه في جامع عمرو بن العاص فمال اليه الناس وجذبت فصاحته وعلمه كثيرا من اتباع الامامين ابي حنيفة ومالك.
وبقي في مصر خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم . وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد وهو الاحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه في العراق ، وصنف في مصر كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه
الامام الشافعي والشعر :
لقد كان الشافعي فصيح اللسان بليغا حجة في لغة العرب عاش فترة من صباه في بني هذيل فكان لذلك اثر واضحا على فصاحته وتضلعه في اللغة والادب والنحو، اضافة الى دراسته المتواصله واطلاعه الواسع حتى اصبح يرجع اليه في اللغة والنحو. فكما مر بنا سابقا فقد قال الاصمعي صححت اشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن ادريس.
وقال احمد بن حنبل: كان الشافعي من افصح الناس ، وكان مالك تعجبه قراءته لانه كان فصيحا.
وقال ايوب بن سويد: خذوا عن الشافع اللغة .
ويعتبر معظم شعر الامام الشافعي في شعر التأمل، والسمات الغالبة على هذا الشعر هي ( التجريد والتعميم وضغط التعبير ) وهي سمات كلاسيكية، اذ ان مادتها فكرية في المقام الاول، وتجلياتها الفنية هي المقابلات والمفارقات التي تجعل من الكلام ما يشبه الامثال السائرة او الحكم التي يتداولها الناس ومن ذلك:
ما حك جلدك مثل ظفرك *** فتول انت جميع امرك
ما طار طير وارتفع *** الا كما طار وقع
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت اظنها لا تفرج
وظل الامام الشافعي في مصر ولم يغادرها يلقي دروسه ويحيط به تلامذته حتى لقي ربه في (30 رجب 204 هجرية ) ومن اروع ما رثي به من الشعر قصيدة لمحمد بن دريد يقول في مطلعها: ألم تر اثار أبن ادريس بعده *** دلائلها في المشـكلات لوامع.