إن الدنيا والدين ليست كما يعتقد البعض أنها متناقضتان بل على العكس تمامًا، بل هي من المكملات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وقد علق النووي رحمه الله أن الحديث معناه أن المؤمن مسجون ممنوع في الدنيا عن الشهوات المحرمة ، مكلف بفعل الطاعات، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات ، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد.
ومن الأمور التي يجب أن يلتفت إليها أن الدنيا سجن المؤمن لأنها مقارنة بالجنة التي سيراها في الأخرة فهي لاتساوي شيئ لما فيها من نعيم ورخاء ورفاهية مهما كانت الأموال في هذه الحياة الدنيا، وبما أن الكافر نهاية إلى جهنم وبئس المصير فإن الناظر إلى ذلك يتعجب فإن الدنيا مقارنة أيضا بجهنم فهي جنة للكافر، وكما خلقنا الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة ندور حول منطلقات خمسة تجمع بين الدنيا والدين لتخبر الناس من أردا الدنيا فعليه بالدين ومن أراد الأخرة فعليه بالدين، ولعلنا نسرد لكم هذه المنطلقات على النحو التالي:

المنطلق الأول:

خرج الإنسان إلى هذه الحياة يتسائل من أتى بي ولماذ خرجت إلى هذه الحياة فيبحث ويجد الإجابة في طيات القرأن الكريم وهي " قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقكم وبثكم وتم تفريقكم في أقطار الأرض وأرجائها ، مع اختلاف الألسنة واللغات والألوان، فهو الذي خلقنا مذ أن كنا في الغيب فقد أتى القرأن بمراحل تطورنا وأخبرنا بالمراحل كلها مع أن الإنسان أخبر عنه المولى ه"َلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا" فكان الإنسان لم يكن شيئ يذكر فكان" فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ" وقال تعالى أيضا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا" فكان العنصر الأول الذي خلق منه الإنسان هو الماء، ثم بعد ذلك "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ" وقال " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ" فكانت هذه هي العناصر الأولى من مكنونات خلق الإنسان وهي الماء والتراب، فتعاقبت بعد ذلك مراحل الخلق وهي الطين فقال تعالى: " الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ"، ثم بعد ذلك بعد أن أصبح الإنسان بداية من طيب إلى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ" فتحول الطين إلى حمأ مسنون ثم إلى قوله تعالى "خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ" فكانت صلصال "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" فينفخ الله فيه الروح فهذه كلها مراحل الخلق.

ويأتي بعد ذلك مرحلة تطور الخلق في بطن أمه لنجد إعجاز يرسمه لنا الدين ليأتي العلم الدنيوي بعدها ليقرر لنا هذا التصور القرأني وهذه المعلومات فنجد الإنسان في بطن أمه محصور في هذه الأية المباركة " قال - تعالى -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ"، فكانت على النحو التالي "العلقة، المضغة المخلقة والغير مخلقة، العظام، كساء العظام، الخلق الآخر.

الشاهد من هذا المنطلق أن الشريعة المتمثلة في القرأن الكريم والدين الإسلامي جاء بما يوافق التعاليم الدنيوية منذ بعثت الرسول صلى الله عليه وسلم فسطر في القرأن خلق الإنسان وتطوره وأموره وتدخل في أمور الطب ليربط الدنيا بالدين، فحينما يتسائل الإنسان بداياته ليقوم بعد ذلك بالربط الدنيوي مع العلوم الدنيوية يجد الإجابة في القرأن لينطلق بالإجابة من محراب الصلاة إلى محراب الحياة.

المنطلق الثاني:

علم الإنسان أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى فيتسائل بالمنطلق الثاني ويقف مادام أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى فلماذا خلقنا إذن تأتي الأية لتجيب بقوله سبحانه "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" خلقنا الله من أجل العبادة التي في مقتضاها أن نفرد الله سبحانه بالوحدانية والألوهية أفراده وإعلاء كلمة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير أن نعبده بتقديم الصالحات وتأخير المنكرات أن نعبده كأنه يرانا فإن لم كان نحن لا نراه فهو يرانا سبحانه وتعالى، فهذا الجانب هو الدين الذي سنحيا به ونعيش على معانيه.

المنطلق الثالث:

إذا خلقنا الله وخلقنا من أجل العبادة فإنه سبحانه على أي الطرق يريد منا أن نعبده فيأتي قول الله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام" الإسلام الذي شمل جميع جوانب الحياة والأخرة الذي جاء ليصل قوة الأرض بقوة السماء، جاء ليكون الصلة بين العبد وربه سبحانه وتعالى وشمل على الأركان التي بني عليها وهي "الشّهادتان إقامة الصّلاة إيتاء الزّكاة الصّيام الحجّ" كما أن الإسلام لم يحرم أبدا العلوم والتبحر في الدنيا ولم يأتي ليجعل الإنسان كل همه التواكل بل ربط على الكتوف بأن يأخذ المسلم بالأسباب ويبحث ويعمل والله من فوق يعلم ويرى، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليخطب بالناس ويصلي بهم ثم إذا وضعت الحرب أوزارها لبس لئمة الحرب وحارب، وإذا قاموا بحفر الخندق أخذ فأسه وحفرن ولم يكن في الإسلام الشخصية الكهنوتية التي تحكم باسم الرب بل هناك فكر وعقل ومشاركة في كل أمور دنيانا دعانا الإسلام إلى العلم دعانا إلى الإبداع إلى التقدم الرقي جاء الإسلام حاملا دنيا ودين.

المنطلق الرابع:

علمنا أن الخالق هو الله وخلقنا من أجل العبادة وعلى طريقة الإسلام التي ارتضاها لنا سبحانه وتعالى تأتي هنا وصيته سبحانه بعد دلنا على ثوابت الحياة لننطلق من محراب الصلاة إلى محراب الحياة فنجد بأن ينادي على عباده الذين أمنوا بكلامه وعبدوه فينادي "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" يامن أمنتم وأسلمتم إتقوا الله حق التقوى إتقوا الله في السريرة والعلانية إتقوا الله فإن الله رقيب إتقوا الله في أعمالكم وهذه كلها جوانب ترعى في أمور الدنيا تراعى في العمل تراعي الود والأخوة إتقوا الله في بعضكم البعض وهي التقوى كما عرفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه "هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والإستعداد إلى يوم الرحيل" قال فأوفى رضي الله عنه أخلاقيات تسير بها في الحياة الدنيا فجاء الدين مقوم للأمور الدنيوية جاء ليصحح الطريق في السير على هذه الحياة حتى نصل إلى شاطئ الأمان وهي الأخرة الدنيا والدين خطاتن متلازمان لايستطيع أن يفترق عنهم الإنسان جئنا هذه الدنيا بالدين لنصلحها ونعمر في الأرض فالنبتة تخرج والبحر يخرج والعبد يرزق.

المنطلق الخامس:

خلقنا الله وعبدناه وعلمنا بوصيته فماذ نظن يقول الله فهل جزاء الإحسان غلا الاحسان ليأتي المنطلق الخامس يجيب بنفسه ويقول " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" فإن إخلاص العباد في الأرض يفتح بركات السماء والأرض السماء تمطر بالخير والأرض تنبت بالفرج والأموال والثمارت والبنين إرتبطت الدنيا بالدين فكان الفلاح والنجاح والبركة والخير واليمن فما بالنا بضعف إتصل بقوة وحاجة إتصلت بمعطي وفقر إتصل بغنى فسبحان الله عما تصفون.

المنطلق السادس:
إذا عصينا ولم نرجع إلى الله ولم نعلم جائت الإجابة وافية كافية " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ" جائت الأيات جاء الدين فكذبت فها أنت اليوم كما نسيت تنسى والله سبحانه لاينسى ولكن ردا على ما فعلت وما أقترفت في هذه الحياة الدنيا جئت إلى الدنيا بالدين فتناسيته فتناستك أعضائك وهذا وإن دل يدل على ان من المفترض أن يكون الدين لك في الحياة بمثابة عينك التي تبصر بها الدين عضو من أعضاء جسدك فحينما نسيته نسيت عينك فربط الدينا بالدين وثيق وغالي ونفيس علينا الإلتزام به وإلا هلكنا وأضعنا الطريق.

الشاهد:

فإن هذه المنطلقات لتدل على أن الدنيا والدين هما متلازمان خلقنا الله لنتعلم من الدين لنخرج بعدها من محراب الصلاة إلى محراب الحياة، لنكون للناس أية لنكون علم على الرقي والتفدم جاء الدين كالخريطة التي نسير عليها في هذه الحياة وأتى بكل مقومات التقدم والرقي جاء بالتفكر والتدبر والتعليم جاء بالرحمة جاء بالنظافة جاء بكل شيئ، والتي لم تأتي بنص صريح أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنتم اعلم بامور دنياكم، وكما قيل "أهل مكة ادرى بشعابها" فحري أن نلازم الربط بين الدين والدنيا للفوز بهما.

مقالات متعلقة بـ : الدين والدنيا واقع متلازم

الإلحاد .. النشأة والأسباب والعلاج‎

الإلحاد .. النشأة والأسباب والعلاج‎

ما هى الديمقراطية؟ .. النشأة و التعريف‎

ما هى الديمقراطية؟ .. النشأة و التعريف‎

محمد رشيد رضا‎

محمد رشيد رضا‎

هجرة الرسول إلى المدينة‎

هجرة الرسول إلى المدينة‎

من هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي‎

من هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي‎

ما هو زواج المتعة‎

ما هو زواج المتعة‎

ماذا تعرف عن الشيوعية‎

ماذا تعرف عن الشيوعية‎

من هو الإمام محمد عبده‎

من هو الإمام محمد عبده‎

العلمانية .. النشأة والتطور‎

العلمانية .. النشأة والتطور‎

تصفح المزيد